عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 11-26-2005, 09:59 PM
الصورة الرمزية الاستاذ خليل
الاستاذ خليل الاستاذ خليل غير متواجد حالياً
المدير العام


 
تاريخ التسجيل: Jan 2003
الدولة: مملكة البحرين
المشاركات: 3,977
أشكال الموجة

والتفكير بالرياضيات كعمارة وكلغة يطرح أسئلة عن صفاتها الرئيسية وكيف ولماذا تعمل? الجواب الذي يقدمه السير مايكل هو أن (الرياضيات تطوّر عن طريق عملية التجريد. ففي كل نموذج علمي يجري تبسيط الأشياء وتجاهل ما يؤمل بأن يكون غير ذي صلة أو يعتبر من العوامل القليلة الشأن من أجل التركيز على الملامح الرئيسية, وتمضي الرياضيات بهذه العملية إلى نتائجها النهائية حيث يتم تجاهل هوية اللاعبين والاقتصار على درس علاقاتهم المشتركة. هذا التجريد هو الذي يجعل من الرياضيات اللغة الشاملة غير المرتبطة بتأويل محدد. وتقدم الموجة (وهي شيء يتذبذب ويهتز) مثالاً جيداً على هذا التجريد والمفهوم الشامل).

وفي الماضي, كانت الرياضيات تعرّف بأنها دراسة الكميات وعلاقاتها المشتركة, مثل 1 زائد 1 يساوي 2. ثم أنشأت الرياضيات الحديثة غير الكمية - ويعتبر السير مايكل من أبرز علمائها - فروعاً جديدة مثل (النظرية التوبولوجية) التي لا تُعنى بشكل الأشياء أو حجومها بل بـ(ارتباطاتها) الهندسية فيما تظل هي ثابتة مثل قطرة الماء أو الموجة: يتغير شكلها عندما تنطوي وتمتد وتنثني لكنها تظل ثابتة مادامت لا تتحطم أو تتناثر. اهتمام الرياضيات الواسع هذا بالأنماط والنظام يفسر أهميتها للعلم, إلا أن دراسة اللانظام والفوضى, الذي يعتبر من قبيل السلوك العشوائي يعد أيضاً فرعاً مهماً من الرياضيات.

هل لهذا العقل قلب? هذا السؤال ظل يلاحق (سندباد علمي) سنوات وهو يتابع بحوث السير مايكل التي تحاول الدمج بين علمي الرياضيات والفيزياء. وفي كل صباح, تتوقع الأوساط العلمية في العالم أن تستيقظ على نبأ الاكتشاف العظيم لما يسمى (نظرية تفسّر كل شيء), وذلك عن طريق دمج نظرية النسبية العامة لأينشتاين التي تفسر الكون الأكبر, ونظرية (ميكانيك الكم) التي تفسر الكون الأصغر داخل الذرات. وفي أول لقاء بسندباد عام 1988 في جامعة أوكسفورد, قال السير مايكل إنه يعتبر نفسه جزءاً من التراث العلمي العربي العظيم الذي امتاز بهذا التداخل والتلاحم بين علوم مختلفة.

وعند انتخابه رئيساً للجمعية الملكية خلال حرب الخليج عام 1992, تحدث السير مايكل لسندباد عن تأثير أبيه عليه, وقال إنه يدين بإنجازه العلمي في الربط بين نظريات الرياضيات والفيزياء إلى أبيه الكاتب والصحافي إدوارد سليم عطية, الذي سعى دائماً إلى التوسط بين ثقافات مختلفة. ولم يفهم (سندباد) مغزى ما قاله السير مايكل إلا بعد سنوات عندما قرأ كتاب عطية الأب (عربي يروي قصته) المنشور بالإنجليزية عام 1946. (أرسلت الكتاب الباحثة الكويتية الدكتورة سحر هنيدي التي كانت تعمل آنذاك مديرة سلسلة كتاب (عالم المعرفة) في (المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب).

وأدرك (سندباد علمي) قبل أن ينتهي من قراءة مقدمة الكتاب أن القلب معلم العقل لدى واحد من أعظم علماء الرياضيات في العصر الحديث. وسندباد يعرف بحكم أسفاره أن ليس للإنسان الذي يبحر بعيداً إلا أن يتشبث بقلبه. لأنه, كما كان يقول الفيلسوف الألماني نيتشه (إذا راح عنه قلبه فإنه سرعان ما يفقد السيطرة على عقله أيضاً).

وفيما يلي فقرات عن عطية الأب دوّنها (سندباد علمي) في دفتر أسفاره عام 1994:

عربي بين ولاءين

كتاب (عربي يروي قصته) An Arab tells his story يقدم وثيقة فريدة للأحداث الشخصية والنشأة الثقافية لمثقف عربي عاش في غمار العاصفة السياسية التي مرت على العالم العربي هذا القرن والتي تتحمل بريطانيا أكبر مسئولية عنها, ويتضمن الكتاب الذي يحمل عنواناً فرعياً (دراسة في الولاءات) قدراً كبيراً من المرارة, ويعبّر عن عمق الأزمة الأخلاقية التي عاناها أفراد من جيل إدوارد عطية تعاونوا مع بريطانيا بأمل تحقيق الطموحات العربية.

ويضفي الوعي الذاتي للكاتب على سرد الأحداث عمقاً روائياً يدركه عطية الأب الذي يبدأ كتابه بالسطور التالية: (أنا مسيحي سوري ولدت في لبنان وتعلمت في مدرسة إنجليزية في مصر وفي جامعة أوكسفورد. قضيت طفولتي بين سوريا والسودان في السنوات السابقة واللاحقة مباشرة للحرب العالمية الأولى. وقضيت حياتي العملية حتى آذار (مارس) 1945 في السودان حيث كان واجبي خلال 20 سنة تقريباً أن أنقل إلى الحكومة (البريطانية) أفكار ومشاعر المثقفين السودانيين. حافظت أيضاً طوال تلك السنوات على علاقة وثيقة بالحياة السورية والحركة القومية العربية عموماً, وقد عانيت في حياتي الشخصية كما في عملي - بأشكال مختلفة وعبر عدة تقلبات عاطفية - آثار صدمة الحضارة الغربية وبالأخص التأثير السياسي البريطاني على العالم العربي وتحفيزها وإثارتها مشاعر الاستياء والتصالح والمؤالفة التي يمكن بلوغها في الوضع الذي أنشأته (بريطانيا)).

ويصوّر إدوارد عطية التوتر الروحي للمسيحي العربي بين انتمائه القومي لوطنه العربي ومشاعر القربى الدينية إلى الغرب المسيحي, وهو يعي هذه المحنة الروحية منذ أوائل وعيه بانتمائه الديني إلى عائلة مسيحية أرثوذكسية في قرية سوق الغرب قرب بيروت, ونشوء وعيه العربي فيما بعد عند انتقاله مع العائلة للعيش والدراسة في السودان ومصر ومشاهدة الانتفاضات الوطنية فيهما ضد الاستعمار البريطاني.

قومي عربي

يصف عطية في فصل يحمل عنوان (قومي عربي) لحظة الانفجار الروحي التي حدثت في نفسه وهو خريج أوكسفورد وموظف في إدارة التعليم البريطانية في الخرطوم: (هكذا كنت قد تحرّرت ليس بسبب عملية فكرية, بل بقوة رد فعل عاطفي نجم عن مشاعري المجروحة وتخلصت من أغلال النظرة السياسية التي زُرعت فيّ. كلمات مثل (الحرية) و (المساواة) و (الاستقلال) التي كنت أنظر إليها بعدم ثقة باعتبارها هُراء ديماغوغيا اتخذت معنى جديداً وواضحاً في ذهني وتردد صداها مع واقع مشاعري الشخصية, وجدت نفسي أتفهّم وأتعاطف مـع ما يدعى بـ (اليقظة العربية), وأحس نحوها بحنين عارم نصف واضح ومختلط إلى حد كبير, لكنه حقيقي, وانقلبت حياتي كلها على عقبها, وأصبحت نفسي قومياً عربياً).

ويحافظ عطية على الحسّ النقدي الذاتي للمثقف الرفيع معترفاً بأن كل التطورات التي مرت على فكره كانت ضمن الإطار الفكري للقرن التاسع عشر بما في ذلك ثورته ضد (الإمبريالية) البريطانية: (مجرد أن انتقلت من الجانب البريطاني للسياج إلى جانب الرعايا, ولكن هذا الجانب وتلك المفاهيم التي كنت أحملها والأهداف التي أسعى وراءها كانت كلها نتاج التقليد البريطاني الليبرالي).

فلسطين بيننا

ضمن هذا الإطار, كان إدوارد عطية الذي واصل العمل كموظف في جهاز الاستخبارات البريطانية في الخرطوم, يطوّر حسّاً نقدياً سياسياً واعياً بأخطاء بريطانيا تجاه العرب. وعلى رغم مرور أكثر من نصف قرن على كتابته, يملك الكتاب حيوية سياسية خاصة في موضوع فلسطين الذي يعتبره الحد الفاصل بين بريطانيا والعرب: (مصير فلسطين هو العامل الحاسم الذي سيحدد أكثر من أي شيء آخر اتجاه العلاقات الأنجلو - عربية في السنوات المقبلة), كتب هذه السطور قبل تأسيس إسرائيل بسنتين. كيف فكر إدوارد عطية في 1948 عند تأسيس إسرائيل, وما نوع الرسالة التي كان يمكن أن يوجهها لو كان حيّاً إلى بريطانيا وأوربا والولايات المتحدة, هل كان سيقطع آخر خيوطه المتصلة بالفكر والحضارة الغربيتين, وهل كان سيدفعه ذلك إلى العودة روحياً وربما جسدياً أيضاً إلى قريته (سوق الغرب), ويعتكف في الكنيسة التي بناها فيها عطية جده الأكبر قبل 300 سنة?

قد تشير إلى الجواب السطور الأخيرة التالية من كتاب إدوارد عطية الذي عمل في سنواته الأخيرة موظفاً في السفارة العراقية في لندنالصداقة الأنجلو - عربية تتوقف على أشياء أكبر تماماً من تبادل المنافع المادية, وليس أقل في الواقع من مسألة ما سيكون عليه الموقف النهائي للعالم العربي من الغرب والحضارة الغربية, وفيما إذا كان هذا الموقف سيصبح سلبياً أو إيجابياً بكل ما يعنيه ذلك لمستقبل السلام والتآلف في حوض البحر المتوسط, ففي هذا الحوض يعيش ما بين 50 و 60 مليون عربي على أقرب علاقة جغرافية واقتصادية بأوربا, وهم ينتمون في الواقع إلى عالم أوربا ومن أجلهم وأوربا ينبغي لهم وللأوربيين التكيّف مع بعضهم البعض والاندماج تدريجياً في تآلف ثقافي وروحي, ولاتزال العلاقة بصورة رئيسية تكمن في ممارسة القوة والعداء تجاه العرب وهي مضرة في جوهرها بمصالحهم, ولا يمكن إلا عندما تتغير كلية إلى علاقة صداقة ومساواة, وتعبّر عن احترام مخلص من جانب الأوربيين لحقوق ومشاعر العرب, آنذاك فحسب سيتجاوب العربي حقاً مع رسالة الحضارة الغربية).

***

القلب معلم العقل, لأن (كل المعرفة التي أملكها يمكن لأيّ كان الحصول عليها, إلا قلبي فهو ملكي كله), قال ذلك الشاعر غوته. والقلب هو كل ما ورثه عن أبيه العربي واحد من أعظم علماء الرياضيات في العالم.



محمد عارف

المصدر مجلة العربي
__________________
هذا من فضل ربي
رد مع اقتباس