عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 02-15-2006, 09:02 PM
noor35 noor35 غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Jan 2006
المشاركات: 10
تكمله

وتابع الشيخ الجليل سرد الأحداث قائلا :

" ورأيتني أمام باب اللجنة وكان الامتحان للمكفوفين شفويا وكان في الغرفة لجنتان : إحداهما تشدد في الامتحان وتطوي رقاب الممتحنين ( بفتح الحاء) كما يطوي البراق معصرات الغمام والأخرى سهلة ميسورة ، فكان الطلبة يتحينون الفرصة التي تمكنهم من الامتحان أمام اللجنة التي ترفق بهم وفوجئت بمن يأخذ بيدي فيجلسني أمام اللجنة المتشددة وحاول أخي أن يخلصني من يد هذا الذي أخذني حتى يذهب بي إلى اللجنة الأخرى . ولكن دون جدوى !

مرت أمامي أشباح رهيبة قبل أن أجلس أمام اللجنة فقد فوجئت بهذا الطالب الذي غدر بالعهد وتركني ، فوجئت به يقول لي على باب اللجنة : " إن رسبت فسوف أقوم بالمذاكرة لك حتى لو نجحت أنا وسبقتك " . وانأ من الذين يتفاءلون بالكلمة الطيبة ولا أحب أن أسمع الكلمة التي تجرح المشاعر ويضيق صدري ولا ينطلق لساني إلا بقول : " إن الله معي " وقلت له : إن ولييّ الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين .

كما مرّ بي شيخ رهيب وانأ على وشك أن أتلقى سهام الأسئلة من اللجنة ، قلت في نفسي : لو لم أوفق في الامتحان أمام لجنة شديدة المراس فماذا يكون المصير ؟ وكيف يكون الحال أمام متاعب الأيام ومصاعبها ؟ ولكن سرعان مازال هذا الشبح أمام قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا يقولنَّ أحدكم لو كان كذا لكان كذا ؛ فإن لو تفتح عمل الشيطان "
أمام اللجنة

جرت على لساني آيات ودعوات قبل أن أتلقى سهام الأسئلة من لجنة سبقتها سمعتها في التشديد والصعوبة كنت أردد قوله تعالى " ( وقل ربي أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا) . وقوله جل شانه رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري ولحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي ) .

وجلست أمام اللجنة ورأيتني وأنا جالس على مفترق طرق فإما نجاح يفتح الباب أمام مستقبل زاهر ترتوي فيه النفس بماء المعارف ، وإما إخفاق يؤدي إلى سلسلة متصلة الحلقات من الشدائد لا يعلم إلا الله وحده مداها . وبينما تتقاذفني تلك الأمواج العاصفة إذ تنبهت على صوت أحد العضوين سألني عن اسمي . وقلت في نفسي : إن هذا الصوت ليس غريبا عليّ ورجعت القهقرى ثلاث سنوات وعلمت أنه صوت الأستاذ الفاضل الشيخ " أحمد الكومي " وهو رجل معروف بالعلم فهو ذو قدم راسخة فيه . ولن أكون مبالغا إذا ما قلت : إنه رجل يتفجر العلم من جوانبه ، وكان قد سبق أن تتلمذت عليه في القسم الابتدائي بمعهد الإسكندرية ، وجلست أمامه في لجان الامتحان ، وبحق كان صوته وهو الرجل الكفيف بمثابة الأمل الذي أضاء في ليل كموج البحر أرخى سدوله عليّ بأنواع الهموم . سألني الشيخ بصوت مليء بالرحمة : " بأي العلوم تحب أن نبدأ الامتحان ؟ " وفهمت من هذا السؤال أنه يريد أن اختار علما متمكنا فيه ليبعث في نفسي رباطة الجأش وفي قلبي برد اليقين . وطلبت أن أبدأ بعلم النحو لأنني والحمد لله أحبه ..... .

بدأنا بعلم النحو والرجل لا يريد أن يعرفني بنفسه وكأنه لا يعرفني ولا أعرفه حتى لا يشعر العضو الآخر بذلك فيشدد عليّ في أسئلته وأنا أعلم أن الشيخ الكومي رجل لماح الذكاء . وفي الإشارة ما يغني عن العبارة ، وفي التلميح ما يغني عن التصريح . ودخلت في نقاش عنيف مع العضو الآخر في مسألة من مسائل النحو .... وتدخل الشيخ الكومي وهو يعلم أنني كنت على حق ، تدخل بصوت خفيض وخاطبني بقوله : " إن فضيلة الأستاذ يريد أن يبصر بمسألة طال فيها الخلاف بين النحاة ، فكن على بينة من ذلك " . وعلمت أنه يريد أن ينهي هذا الجدال . ثم انتقلنا إلى المواد الأخرى وقلبناها على بساط البحث والأسئلة .

وأرد الشيخ أن يعلمني بنتيجة الامتحان وذلك بسؤالي في القرآن الكريم بالآيات المبشرة . أراد أن يسلط أضواء الأمل على قلبي فقال لي : " اقرأ من سورة الزمر : ( قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله ) . وختم الأسئلة في القرآن الكريم بسورة الضحى ووقف بي عند قوله تعالى ولسوف يعطيك ربك فترضى ) .

وانصرفت وقلبي يلهج بالرضا ولساني يردد الحمد لله ، فقد كنت أشعر بنعمة لا تعادلها نعمة وهي أن الله تعالى سيجعلني من حماة الإسلام وحراس العقيدة ! .
في مساجد الجمعية الشرعية

وفي السنة الثالثة من القسم الثانوي حصل تحول في حياتي فقد أشار عليّ أحد الأصدقاء وهو الأخ عبد العزيز ندا ، وكان شابا مستقيم الخلق ، هادىء الطباع. أشار عليّ أن نلتحق سويا بالجمعية الشرعية لنقوم بخطبة الجمعة في مساجدها ووجدت هذه الفكرة صدى في نفسي وسألت : هل لذلك من شروط ؟ وكانت الإجابة من أحد العاملين بها أن الشروط سهلة منها : حفظ القرآن الكريم وبعض الأحاديث النبوية والقدرة على الخطابة . واصطحبني الأخ عبد العزيز بعدما كتب كل منا طلب الالتحاق . وذهبنا إلى مقر الجمعية الرئيسة بحي المغربلين . ذهبنا وكانت السماء تمطر ...... وقبلت طلبات الالتحاق وحدد لنا موعد للاختبار، وذهبنا لأداء الاختبار وكانت اللجنة مكونة من عضوين من علماء الجمعية وهما العلمان الجليلان : فضيلة الشيخ علي حسن حلوة، وفضيلة الشيخ أحمد عيسى عاشور . وسألني الشيخ : هل سبق لك أن خطبت الجمعة ؟ قلت : نعم في مساجد بلدتي . قال : كم كان سنك يومها ؟ . قلت : ستة عشر عاما ! . قال : تصور نفسك على المنبر وقد اجتمع المسلمون لصلاة الجمعة وقمت فيهم خطيبا ، فماذا عساك أن تقول ؟ . فحمدت الله وأثنيت عليه ونطقت بالشهادتين ، فانطلقت في الحديث وقد فتح الله لعيّ مغاليق المعاني وكان موضوع الخطبة التي ما زلت معتزا بها " دعوة المسلمين إلى وحدة الصف والهدف والأخوة في الله " .....

ما زلت أذكر وأنا ألقي خطبة الاختبار أمام العالمين الجليلين ، ما زلت أذكرهما وهما يبكيان بقلب مفعم بالخشوع والخشية أثناء سماعهما للخطبة مما جعل الشيخ علي حلوة مفتي الجمعية يأخذ بيدي إلى السكرتير ويقول له : أعطه أكبر المساجد ليقوم فيه بخطبة الجمعة وكن مطمئنا .
شدة أعقبها تيسير

لما أوشك العام الدراسي أن ينصرم ، وكنت مضطرا أن أبحث عمن يذاكر معي في القاهرة ، وذلك لالتزامي بأداء خطبة الجمعة في مساجد القاهرة ، جاءني طالب يسكن قريبا من مسكني وسألني هل ارتبطت بالمذاكرة مع أحد ؟ قلت له : لا . قال : هل لديك مانع أن نذاكر معا فنحن متجاوران في المسكن . قلت له : لا مانع . قلتها وانأ متخوف لأنني قد وضعته تحت التجربة يوما فلم يكن على مستوى المسؤولية ....اتفقت أنا وهو على أن نذاكر يوما بمسكننا في دير الملاك ويوما في مسكنه بمنشية الصدر . وبدأنا ننفذ الجدول الذي رسمناه ، فقال لي : إن لدي فكرة سأطرحها عليك . قلت : خيرا إن شاء الله . قال: نقسم المواد قسمين : نبدأ القسم الأول بمذاكرة المواد التي تحتاج إلى شرح مثل : التفسير والتوحيد والنحو والصرف والبلاغة . أما المواد التي تحتاج إلى قراءة فنؤخرها إلى حين الفراغ من تلك المواد ، وكان يقصد بهذه المواد الأخرى : الحديث والفقه والأدب والتاريخ ، وفهمت من عرضه هذا أن نبدأ بالمواد التي يحتاج فيها إلى شرح على أن يذاكر بعد ذلك المواد التي تحتاج إلى قراءته وحده وهذه المواد أحتاج إليها من حيث القراءة . لكنني غلبت حسن الظن بعدما دعوت الله قائلا : " اللهم أسلمت نفسي إليك ووجهت وجهي إليك وفوضت أمري إليك " . وبدأنا في مذاكرة المواد التي تحتاج إلى شرح ، وفي الليلة التي فرغنا فيها من مذاكرتها وبينما هو يصحبني من بيته إلى بيتي، وعندما اقتربنا من البيت وبعد أن انقضى على مذاكرتنا شهر كامل ولم يبق على الامتحان سوى عشرين يوما ، فاجأني بقوله :" أحب أن أقول لك : أود أن أذاكر وحدي" .وحدث ما كنت أتوقعه ، لكن الذي زاد الجرح ألما أنني لما سألته : ولماذا قررت أن تذاكر وحدك أجاب بكل افتراء : لأنني لم أستفد من مذاكرتنا معا !! قلت له وأنا المغيظ المحنق : وكيف طوعت لك نفسك أن تضيع شهرا والامتحان على الأبواب ؟ وكيف تقول هذا أو تدعيه وأنا الذي كلما ذاكرنا درسا سألتك فيه ، فتأتي إجابتك سديدة وصحيحة؟! فلم يحر ِ جوابا . وعلمت أنه لا جدوى من الكلام ، فقلت : حسبي الله ونعم الوكيل ، والحق أنني لم أكن نادما على ما حدث على الرغم أنني بذلت معه أقصى طاقاتي في شرح المواد وكيف أندم على خير فعلته ؟ والصادق المعصوم يقول : " اصنع المعروف في أهله وفي غير أهله، فإن صادف أهله فهو أهله ،وإن لم يصادف أهله فأنت أهله "

أشهد أنني دخلت البيت حزينا أغدو ، وأروح كالطير يمشي من الألم وهو مذبوح ومضت هذه الليلة ثقيلة وئيدة .... وطلع النهار فجلست في فكر وحزن وسألتني أمي : ما يحزنك؟ وأخبرتها بما حدث ، فقالت لي بلسان اليقين وبمنطق الحق المبين : لا تحزن فإن الله سيزيل هذا الكرب، ودعت لي بدعوات صادفت ساعة الاستجابة ، وما هي إلا لحظات وطرق الباب طارق ، وقلت : " من ؟ . قال : أنا عبد المنعم ، وكأني عثرت على هدفي الذي كنت أنشده . إن عبد المنعم هذا كان زميلا لي وجلسنا سويا في لحظة صمت قطعه بسؤال : هل أنت مرتبط بأحد في المذاكرة ؟ . قلت : لا . قال : فهل لديك مانع من مذاكرتنا معا ؟ قلت : لا . قال : على بركة الله . وقطعنا الأيام العشرين نصل الليل بالناهر حتى أدينا ما علينا والله لا يضيع أجر من أحسن عملا ، وهكذا مرت الشدة عندما جاء التيسير .
يوم الامتحان

في صبيحة هذا اليوم صحبني شقيقي عبد الستار إلى لجنة الامتحان بالمعهد ، وكان الامتحان شفويا للمكفوفين ، وكانت اللجنة مكونة من أعضاء ليسوا من العاملين بمعهد القاهرة إنما جاءوا من معاهد أخرى لأنها شهادة ، وبدأنا الامتحان بالتفسير فكانت فاتحة خير ، فقد أعجب الشيوخ بإجابتي في تفسير كتاب الله حتى قام أحدهم يدعو أعضاء اللجان الأخرى ويقول لهم : تعالوا لتسمعوا العلم من منابعه الصافية ، كنت ساعتها قد أفاض الله عليّ بآيات من سورة الملك . .... وفرغت من الامتحان ، وكانت ساعة طيبة يوم أخبرني أخي بظهور النتيجة ، حيث حصلت على نسبة مئوية تقدر بتسعة وتسعين !!!! .
في الحلقات القادمة

سيداتي وسادتي وأخوتي سنواصل المسيرة مع فضيلة الشيخ كشك - طيب الله ثراه- وهو يسرد قصة أيامه في حلقات قادمة بإذن الله تعالى ، وستقرأون إنشاء الله فيما سيأتي :

1- الشيخ كشك في كلية أصول الدين

2- الترشيح للعمل بالأوقاف

3- سياحة في بيوت الله وقصص فضيلته مع المساجد التي عمل فيها

4- قصة زواج فضيلته

5- قصته - طيب الله ثراه - مع مخابرات عبد الناصر

6- قصته -طيب الله ثراه- مع السادات

والكثير الكثير من الأحداث التي تنشر لأول مرة عن هذا الرجل الاستثنائي

رحم الله الشيخ